سورة النساء - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النساء)


        


قلت: جملة {مما قل..} إلخ، بدل {مما ترك}، و{نصيبًا}: مصدر مؤكد كقوله: {فَرِيضَةً مِّنَ اللهِ} [النساء: 11] أي: نصب لهم نصيبًا مقطوعًا، أو حال، أو على الاختصاص، أعني: نصيبًا مقطوعًا.
يقول الحقّ جلّ جلاله: وإذا مات ميت وترك مالاً فللرجال نصيب مما ترك آباءهم وأقاربهم، وللنساء نصيب مما ترك والدهن وأقاربهن كالإخوة والأخوات، مما ترك ذلك الميت قل أو كثر، {نصيبًا مفروضًا} واجبًا محتمًا.
رُوِيَ أنَّ أَوْسَ بنَ ثَابتِ الأنْصَارِيَّ تُوفِيَّ، وتَركَ امرأة يقال لها: (أم كَحَّة) وثلاثّ بناتٍ، فأخذ ابْنَا عَمّ الميتِ المَالَ، ولم يُعْطيا المرأَة ولا بَنَاتِه شيئًا، وكان أَهلُ الجَاهلِيَّة لا يُورِّثُون النِّسَاءَ ولا الصغيرَ ولو كان ذكرًا، ويقولون: إنما يَرث مَنْ يُحارب ويَذب عن الموروث، فجاءت أمُ كحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في مسجد الفضيخ، فقالت: يا رسول الله؛ إن أوس بن ثابت مات، وترك بنات ثلاثًا، وأنا اِمْرأته، ولَيْس عِنْدِي مال أُنْفقُه عَليهنّ، وقد تَرَك أبُوهُن مالاً حسنًا، وهو عند سُويْدٍ وعَرْفَجَة، فَدَعاهُما النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فقالا: يا رسُولَ الله ولَدُها لا يَركُب فَرسًا، ولا يَحْمِل سِلاَحًا، لا ينُكأ عَدُوًّا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «انْصَرِفُوا حتى أرى ما يُحدِثُ الله تعالى»، فانْصرَفُوا. فنزلت الآية. فأثبت الله لهن في الآية حقًا، ولم يُبِّين كم هو فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى سُويد وعَرفجَة: «لا تُفرقا مِنْ مَال أوْسٍ شَيئًا، فَإنّ الله تعالى جَعَل لِبنَاتِه نَصِيبًا، ولم يبَّين كم هو حتى أنظُرَ ما يُنزل الله تعالى»، فأنزل الله تعالى بعدُ: {يُوصِيكُمُ اللهُ ِفي أوْلادِكُمْ} [النساء: 11]... إلى قوله... {الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [النساء: 13]. فأرسل إليهما: «أن ادفعا إلى أم كحة الثُّمْن، وإلى بناته الثُّلثين، ولكما باقي المال».
الإشارة: كما جعل الله للنساء نصيبًا من الميراث الحسي جعل لهن نصيبًا من الميراث المعنوي، وهو السر، إن صحبتْ أهل السر، وكان لها أبو الروحانية، وهو الشيخ، فللرجال نصيب مما ترك لهم أشياخهم من سر الولاية، وللنساء كذلك على قدر ما سبق في القسمة الأزلية، قليلة كانت أو كثيرة، نصيبًا مفروضًا معينًا في علم الله وقدره، وقد سواهن الله تعالى مع الرجال في آية السير، فقال: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤمِنينَ وَالْمُؤمِنَاتِ} [الأحزَاب: 35] إلى آخر الآية، فمَنْ صار منهن مع الرجال أدرك ما أدركوا. وبالله التوفيق.


قلت: الضمير في {منه}: يعود على المقسوم المفهوم من القسمة.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {وإذا حضر} معكم في قسمة التركة ذَوو القرابة مِمَّنْ لا يرث، كالأخوال والخالات والعمات، {واليتامى والمساكين فارزقوهم} أي: فأعطوهم شيئًا من المال المقسوم تطييبًا لقلوبهم. فإن كان المال لغيركم، أو كان الورثة غيرَ بالغين، فقولوا لهم {قولاً معروفًا}، بأن تُعلموهم أن المال لغيرنا، ولو كان لنا لأعطيانكم، والله يرزقنا وإياكم.
واختلف في هذا الأمر، هل للندب وهو المشهور أو للوجوب ونسخ بآية المواريث؟ وقيل: لم يُنسخ، وهي مما تهاون الناس بها. والله تعالى أعلم.
الإشارة: يقول الحق جل جلاله لخواص أحبابه: إذا دارت الكؤوس بخمرة الملك القدوس، وتعاطيتهم قسمتها بين أرواحكم حتى امتلأت جميعُ أشباحكم، وروت منها عُروقكم، وحضر معكم من ليس من أبناء جنسكم، ممن لا يُحل شرْب خمرتكم، فإن كان من أهل المحبة والوداد، أو من له بكم قرابة واستناد، فلا تحرموه من شراب خمرتكم، ولا من نفحات نسمتكم، فإنكم قوم لا يشقى جليسكم، فارزقوه من ثمار علومكم، واسقوه من شراب خمرتكم، وذكَّروه بالله، وقولوا له ما يدله على الله، ويوصله إلى حضرة الله، وهذا هو القول المعروف، الذي هو بالنصح موصوف.
رُوِي أن أبا هريرة رضي الله عنه نادى في سوق المدينة: يا معشر التجار، اذهبوا إلى المسجد، فأنَّ تركة مُحمدٍ تقسم فيه، لتأخذوا حقكم منها مع الناس قبل أن تنفد، فذهب التُجَّارُ إلى المسجد النبوي، فوجدوه معمورًا بالناس، بعضهم يُصلي، وبعضهم يتلو، وبعضهم يذكر، وبعضهم يعلم العلم، فقالوا: يا أبا هريرة، ليس هنا ما ذكرت من قسم التركة! فقال لهم: (هذه تركة محمد صلى الله عليه وسلم، لا ما أنتم عليه من جمع الأموال) أو كما قال رضي الله عنه.


قلت: هنا شرطية، تخلص للاستقبال، وجوابها: {خافوا}، وحذف مفعول {يخشى} للعموم، فيصدق بخشية العذاب وخشية العتاب وخشية البعد عن الأحباب، على حساب حال المخاطبين بهذه الخشية.
يقول الحقّ جلّ جلاله: للأوصياء الذين في ولايتهم أولاد الناس: {وليخش} الذين يتولون يتامى الناس، فليحفظوا مالهم، وليحسنوا تنميته لهم ولا يضيعوه، وليخافوا عليهم الضيعة، كما يخافون على أولادهم، فإنهم لو ماتوا وتركوا {ذرية ضعافًا خافوا عليهم}، فكما يخافون على أولادهم بعدهم كذلك يخافون على أولاد الناس، {فليتقوا الله} في شأنهم، وليحفظوا عليهم أموالهم، وليرفقوا بهم ويلاطفوهم في الكلام، كما يُحبون أن يلاطف بأولادهم، {وليقولوا} لهم {قولاً سديدًا} أي: عدلاً صوابًا بالشفقة وحسن الأدب.
وقيل: الخطاب لمن حضر المريض عند الإيصاء فيقولون له: قدم لنفسك، أعتق، تصدق، أعط كذا، حتى يستغرق ماله، فنهاهم الحق تعالى عن ذلك، وقال لهم: كما تخافون الضيعة على أولادكم بعدكم خافوا على أولاد الناس، فليتقوا الله في أمر المريض بإعطاء ماله كله، {وليقولوا قولاً سديدًا}: عدلاً، وهو الثلث، وقيل: للمؤمنين كلهم عند موتهم، بأن ينظروا للورثة، فلا يسرفوا في الوصية بمجاوزة الثلث. والله تعالى أعلم.
الإشارة: أمر الحق جل جلاله أهل التربية النبوية إذا خافوا على أولادهم الروحانيين أن ينقطعوا بعد موتهم، أن يمدوهم بالمدد الأبهر، ويدلوهم على الغني الأكبر، حتى يتركوهم أغنياء بالله، قد اكتفوا عن كل أحد سواه، مخافة أن يسقطوا بعد موتهم في يد من يلعب بهم، فليتقوا الله في شأنهم، وليدلوهم على ربهم، وهو القول السديد.
وينسحب حكمها على أولاد البشرية، فمن خاف على أولاده بعد موته، فليتق الله وليكثر من طاعة الله، وليحسن إلى عباد الله، في أشباحهم وأرواحهم أما أشباحهم فيُطعمهم مما خوله الله، ففي بعض الأثر عنه عليه الصلاة والسلام: «ما أحْسَنَ عَبْدٌ الصَّدَقَةَ في مَاله إلا أحْسَنَ اللهُ الخِلافَةَ عَلَى تَرِكَته» وأما الإحسان إلى أرواحهم، فيدلهم على الله، ويرشدهم إلى طاعة الله، ويعلمهم أحكام دين الله. فمن فعل هذا تولى الله حفظ ذريته من بعده، فيعيشون في حفظ ورعاية وعز ونصر، كما هو مشاهد في أولاد الصالحين، قال تعالى: {وَهُوَ يَتَوَلَّى الْصَّالِحِينَ} [الأعرَاف: 196]، وتذكر قوله تعالى: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} [الكهف: 82].
وقال القشيري في هذه الآية: إن الذي ينبغي للمسلم أن يدخر لعياله التقوى والصلاح، لا المال، لأنه لم يقل فليجمعوا لهم المال، وليكثروا لهم العقار والأسباب، وليخلفوا العبيد والأثاث، بل قال: {فليتقوا الله} فإنه يتولى الصالحين. ه المراد منه.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8